قراءة في قانون 08-05 المتعلق بالوساطة الاتفاقية
مـــقـــدمـــة
لقد أصبح الحديث عن الوسائل البديلة لحل المنازعات يكتسي أهمية كبرى في الوقت الراهن باعتبارها إحدى الأدوات القانونية لحسم النزاعات بشكل متميز وسريع في الزمان والمكان، وأداة إستراتيجية لإعادة بناء العلاقات المتوترة بين الأطراف، وحالة في خلق جو من العدالة والإنصاف، وفي حل كل النزاعات كيفما كانت طبيعتها محلية أو دولية، وفي جميع الميادين القانونية، تجارية أو مدنية.
كما أنها تعتبر من أبرز الوسائل التي من شأنها أن تساعد على تطوير أداة القضاء ليستجيب لمتطلبات تحقيق العدالة، ونشر آليات التنمية وتثبيت الإصلاحات الكبرى.
وتعتبر الوساطة من أهم طرق تسوية النزاعات خاصة التجارية منها خاصة في الوقت الذي أصبح فيه اللجوء إلى المحاكم والتحكيم، يأخذ وقتا طويلا ويستنزف جهدا كبيرا، إذ تتجه معظم الدول إلى تنظيم هذه الوسيلة لحل النزاعات.
ويعد المغرب من البلدان التي تبنت سياسة الحلول البديلة لفض المنازعات من خلال تنظيمه لمجموعة من تلك البدائل، وقد تدخل المشرع أخيرا بموجب القانون رقم 05-08 ليقضي بنسخ وتعويض الباب الثامن بالقسم الخامس من قانون المسطرة المدنية، حيث نظم التحكيم في بعديه الوطني والدولي بكيفية دقيقة وواضحة وأكثر تقدما، بحيث أخذ هذا القانون عن القانون النموذجي للتحكيم الذي وضعته لجنة الأمم المتحدة، ومؤخرا عرف المغرب نظاما جديدا لفض المنازعات بمقتضى 05-08 المتمم لقانون المسطرة المدنية يتعلق بالوساطة الاتفاقية ونظمها في الفرع الثالث من نفس القانون في الفصول من 55-327 إلى 66-327.
وفي هذا السياق نطرح الإشكالية التالية: إلى أي حد استطاع المشرع المغربي تنظيم الوساطة الاتفاقية تنظيما كافيا من خلال مقتضيات قانون 05-08؟
للإجابة عن الإشكالية السالفة ارتأينا أن نقسم الموضوع إلى محورين جوهرين:
المبحث الأول: شروط الوساطة الاتفاقية.
المبحث الثاني: نقائص الوساطة الاتفاقية وآفاق تجاوزها.
المبحث الأول: شروط الوساطة الاتفاقية
تتخذ الوساطة صورتين: شرط الوساطة وينص عليه الاتفاق الأصلي. وقد عرفه الفصل 61-327 من قانون المسطرة المدنية كما يلي: “شرط الوساطة هو الاتفاق الذي يلتزم فيه أطراف عقد بأن يعرضوا على الوساطة النزاعات التي قد تنشأ عن العقد المذكور. وعقد وساطة وذلك بعد نشوب النزاع، ويمكن إبرامه حتى أثناء مسطرة جارية أمام المحكمة. وقد عرفه الفصل 59-327 من نفس القانون بانه: “عقد الوساطة هو الاتفاق الذي يلتزم فيه أطراف نزاع ناشئ بعرض هذا النزاع على الوسيط”.
وسواء اتخذ اتفاق الوساطة شكل عقد وساطة أو شرط وساطة فإن المشرع يشترط فيه مجموعة من الشروط منها ما هو موضوعي ومنها ما هو شكلي:
المطلب الأول: الشروط الموضوعية لاتفاق الوساطة
الشروط الموضوعية في عقد الوساطة هي الشروط المتطلبة عموما في العقود وهي الرضا والسبب والحل. ولذا سنقف فقط عند البيانات المتطلبة في هذا العقد نظرا لخصوصياتها، وفي ذلك نميز بين البيانات المتطلبة في شرط الوساطة واتفاق الوساطة بالكيفية التالية[1]:
الفقرة الأولى: البيانات التي يجب أن تضمن في عقد الوساطة
اشترط المشرع المغربي بيانات تتعلق بتحديد موضوع النزاع، وتعين الوسيط والتنصيص على طريقة تعيينه، وذلك تحت طائلة البطلان. ومنها تحديد موضوع النزاع والغاية منها معرفة إذا كان يدخل ضمن نطاق القضايا التي يجوز الصلح فيها على أساس أن الوساطة لا تجوز إلا ما يجوز فيه الصلح[2].
وقد عبر المشرع المغربي عن ذلك بوضوح في الفصل 56-327 من قانون المسطرة المدنية الذي نص على ما يلي: “لا يجوز أن يشمل اتفاق الوساطة مع التقيد بمقتضيات الفصل 62 من الظهير الشريف الصادر في 9 رمضان 1331 الموافق لــ12 غشت 1913 بمثابة قانون الالتزامات والعقود، المساند من تطبيق الصلح. ولا يجوز إبرامه إلا مع مراعاة التحفظات أو الشروط أو الحدود المقررة لصحة الصلح بموجب الفصول من 1099 إلى 1104 من نفس الظهير الشريف المذكور.
إضافة إلى ذلك تعيين الوسيط أو التنصيص على طريقة تعيينه وهو من شروط صحة عقد الوساطة. والأطراف أحرار في اختيار الوسيط الذي سيدير عملية الوساطة فيمكن أن يتم تعين الوسيط باسمه أو بصفته كمحامي أو مديرا ونعني المؤسسة التي ستجري الوساطة تحت رعايتها والتي ستتولى تحديد شخص طبيعي من ضمن لائحة الوسطاء المعتمدين لديها.
وإذا رفض الوسيط المعين القيام بالمهمة المسندة إليه للأطراف الاتفاق على اسم وسيط آخر وإلا اعتبر العقد لاغيا (الفصل 60-327 من القانون رقم 05-08)[3].
الفقرة الثانية: البيانات التي يجب أن تضمن في شرط الوساطة الاتفاقية
بالإضافة إلى التنصيص على شرط الوساطة في العقد الأصلي أو في أية وثيقة أخرى، فإن المشرع اشترط تضمين شرط الوساطة تعين الوسيط أو التنصيص على طريقة تعيينه، وذلك تحت طائلة البطلان.
إلا أن المشرع المغربي وعلى خلاف عقد الوساطة لم يشترط تعيين موضوع النزاع في شرط الوساطة وهذه مسألة بديهية لأن النزاع لا يكون قد نشأ بعد، وإنما محتمل الوقوع لذلك يصعب تحديده[4].
المطلب الثاني: الشروط الشكلية لاتفاق الوساطة الاتفاقية
حرص المشرع على تنظيم الوساطة باعتبارها وسيلة من الوسائل البديلة لتسوية المنازعات، فحدد مجموعة من الشروط الشكلية التي لابد من توافرها وهي إبرام اتفاق الوساطة كتابة واحترام الوسيط لأجل الوساطة (الفقرة الأولى) مع التقيد بأحكام السر المهني أثناء عملية الوساطة (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: الكتابة واحترام آجال الوساطة
الاتفاق الكتابي يوفر نوعا من الوضوح كما تم الاتفاق عليه وبذلك يعزز من سلامة عملية الوساطة. ولهذا حرص المشرع المغربي سواء اتخذ اتفاق الوساطة شكل عقد وساطة أو شرط الوساطة على اشتراط الكتابة.
ويستوي أن يكون الاتفاق مكتوبا بعقد رسمي أو عرفي أو كعنصر يحرر أمام المحكمة متى كان النزاع جاريا أمامها، لأن الوساطة ليست عائقا أمام التقاضي، وتبقى إمكانية اللجوء إلى الوساطة قائمة ولو أثناء عرض النزاع على القضاء[5].
ويعتبر المشرع المغربي اتفاق الوساطة مكتوبا إذا ورد في وثيقة موقعة من الأطراف أو في المراسلات أو البرقيات التلغرافية أو بالتلكس أو بأية وسيلة أخرى من وسائل الاتصال التي تثبت وجوده أو من خلال تبادل مذكرات الطلب أو الدفاع التي يدعي فيها احد الطرفين بوجود اتفاق وساطة دون أن ينازعه الطرف الآخر في ذلك.
ويعد في حكم اتفاق الوساطة المبرم كتابة كل إحالة في عقد ما مكتوب إلى عقد نموذجي أو اتفاقية دولية أو إلى أي وثيقة أخرى تتضمن شرط الوساطة إذا كانت الإحالة واضحة في اعتبار الشرط جزء من العقد.
وقد أحسن المشرع صنعا بتأكيده على ضرورة أن تتم الوساطة كتابة دون تقييد ذلك بالكتابة باليد كما هو الشأن في قانون المسطرة المدنية. وهذا يتماشى مع انتشار استخدام
العقود الالكترونية[6].
يتضح مما تقدم أنه لا مجال لإبرام الوساطة الاتفاقية شفويا. وقد أكدت على ذلك أيضا المحكمة التجارية بالرباط بقولها: “حيث لئن أجاز المشرع في الفصل 55-327 للأطراف الاتفاق على تعيين وسيط مكلف بتسهيل إبرام صلح ينهي النزاع فإن الفقرة 62 من نفس الفصل اشترطت تحرير بند الوساطة كتابة في اتفاق الأصلي أو في وثيقة تحيل غليه وان يتضمن إما تعين الوسيط أو الوسطاء وإما التنصيص على طريقة تعيينهم.
وحيث أن الطالب لم يدل بعقد الوساطة ولا ما يفيد اتفاق الأطراف على عرض النزاع على وسيط معين أو اتفاقهم على السيد عمر الفارسي وسيطا إذ أن عقد الوساطة الذي يتم بمقتضاه تعيين الوسيط هي الوثيقة التي يستمد منها هذا الأخير صلاحيته المتمثلة في تسهيل إبرام صلح لإنهاء النزاع مما يبقى معه الطلب مخالفا لمقتضيات الفصل 66-327 من قانون المسطرة المدنية ويتعين التصريح برفضه[7].
ومن الناحية العملية يصعب تصور اتفاق التسوية غير مكتوب خاصة وأن أنظمة الوساطة الداخلية والدولية تلزم بتقديم محضر التسوية إلى القضاء مرفقا بنسخة من اتفاق الوساطة وذلك لتذييله بالصيغة التنفيذية.
إضافة إلى ذلك يجب احترام آجال الوساطة التي وضع لها المشرع[8]آجالا بأن لا تتجاوز مدتها أجل ثلاثة أشهر تبدأ من التاريخ الذي قيل فيه الوسيط مهمته، غير أنه يمكن للأطراف تمديد هذا الأجل باتفاق وفق الشروط المعتمدة لإبرام اتفاق الوساطة. إلا أن المشرع المغربي لم يحدد مدة تمديد مهمة الوسيط وهذا عيب ينبغي تجاوزه بتحديد أجل التمديد الذي ينبغي أن يكون لمرة واحدة وذلك للحفاظ على خصائص الوساطة المتمثلة في السرعة في فض الخلافات. وذلك على غرار المشرع الفرنسي الذي نص في الفصل 3-131 على تمديد مدة الوساطة لثلاثة أشهر أخرى مرة واحدة بناءا على طلب من الوسيط، وكذلك المشرع الأردني.
الفقرة الثانية: التقيد بالسر المهني
تشكل السرية أساسا جوهريا لعملية الوساطة حيث يبقى كل ما تم مناقشته سريا ولا يتم الإعلان عنه إلا إذا وافق الأطراف على ذلك. فالوسيط يحمل مسؤولية واضحة في الحفاظ على السر المهني والتعامل مع جميع المعلومات بحرص شديد.[9].
والمشرع المغربي حرصا منه على ضمان السرية في الفصل 66-327 على انه: “يلتزم الوسيط بوجوب كتمان السر المهني بالنسبة للأغيار وفق المقتضيات وتحت طائلة العقوبات المنصوص عليها في القانون الجنائي المتعلق بكتمان السر المهني ولا يجوز أن تثار ملاحظات الوسيط والتصريح التي يتلقاها أمام القاضي المعروض عليه النزاع إلا باتفاق الأطراف ولا يجوز استعمالها في دعوى أخرى.
فالمشرع المغربي ألزم الوسطاء بالسرية تحت طائلة المسائلة الجنائية ولكن هل يمكن إجبارهم على الإدلاء بالشهادة؟
يتوفر الوسيط على حماية سندها من اتفاق الوساطة ذاتها والذي فيه الأطراف عادة على عدم استدعاء الوسيط في أية إجراءات لاحقة ولا يميل عادة القضاة إلى السماح باستدعاء الوسيط كشاهد لأن ذلك قد يعرض مفاهيم حيادية الوسيط والعملية للخطر.
المبحث الثاني: نقائص نظام الوساطة الاتفاقية وآفاق تجاوزها
باستقرائنا للنظام القانوني للوساطة الاتفاقية ومقارنته مع بعض التشريعات المقارنة، نجد أنه تعتريه بعض مظاهر المحدودية التي من شأنها أن تعرقل التطبيق العادي والسليم لنصوصه. ولعل هذا ينسجم مع القاعدة الكونية الثابتة والتي تتمثل في أن كل ما ينتجه الإنسان مطبوع بالقصور والنقصان، وتظهر هذه المحدودية بالأساس في غموض النصوص القانونية، سيما فيما يتعلق بالجانب الإجرائي، وأيضا عدم إحاطة نصوصه ببعض المنازعات التي أفرزها التطور التقني والمعلوماتي، وكذلك ضعف ومحدودية آليات الرقابة الفضائية.
ولعل نجاح هذا النظام يكون من خلال تنقيح أحكامه والقيام بإصدار نص تنظيمي من شأنه الإحاطة بالجوانب التي أغفلها المشرع، هذا بالإضافة إلى تأهيل شخص الوسيط نظرا لما يضطلع به إذ يمكن اعتباره الركن الأساسي الذي تقوم عليه الوساطة الاتفاقي.
المطلب الأول: محدودية أحكام الوساطة.
للحديث عن مظاهر محدودية أحكام الوساطة الاتفاقية ارتأينا استعراض نقط الضعف والقصور الذي يعتري النصوص القانونية المنظمة للوساطة، وكذا الحديث عن محدودية آليات الرقابة القضائية.
الفقرة الأولى: غموض النصوص القانونية المنظمة للوساطة
يعتبر التنظيم التشريعي للوساطة الاتفاقية من قبل المشرع المغربي في إطار القانون 08.05 لبنة إضافية في بناء العدالة التعاقدية. لأنها بهذا يكون قد وضع رهن إشارة الأطراف المتنازعة إمكانية بديلة للمساطر القضائية تتيح لهم التحكم في مسلسلها بما يخدم مصالحهم المشتركة. فالأحكام المتضمنة في هذا القانون هي من الأهمية بمكان وإن كانت مشوبة ببعض جوانب النقص والقصور التي ستتم الإشارة إليها.
يتمثل الجانب الأول منها في عدم صدور المرسوم التطبيقي بشأن تحديد طبيعة المؤسسات التي ستتولى ممارسة الوساطة. إذ لا وجود حاليا لأي قيد لولوج مهمة الوسيط، مما من شأنه أن يلحق ضررا بها وبمصالح الأطراف. فالقانون المذكور ينص في فصله 67-327 على أنه يعهد بالوساطة إلى شخص طبيعي أو معنوي دون تحديد الأحكام الواجب التقيد بها والضمانات الواجب التوفر عليها في هذا المضمار. وطبيعة التزام الوسيط ومسؤوليته تجاه الأطراف[10].
أما الجانب الثاني فيهم مجال الوساطة حيث إن القانون رقم 08.05 قد حدده في المنازعات التي أجاز المشرع إجراء الصلح بشأنها، الأمر الذي يجعل نطاقها يضيق عن شمول الكثير من المنازعات الجديدة ذات الطبيعة التقنية المتناهية، بالرغم من أنها قد تكون الأنجع لمقاربتها وليس هناك من توجس أن يتعلق مجالها بما قد يتصل بالنظام العام مادام أن الوساطة في جوهرها ترمي إلى تقريب وجهات نظر المتنازعين. ولعل المنازعات المتعلقة بالتجارة الالكترونية يمكن أن تفرز العديد من النزاعات الخاصة المتعلقة على سبيل المثال بالملكية الفكرية وقضايا الجمارك وغيرها من النزاعات التي تعدت في البنية الالكترونية. ولاشك أن هذه النزاعات متلائمة مع آلية الوساطة. ورغم أهمية هذه النزاعات الجديدة وقابليتها لتطبيق هذه الآلية فإن القانون رقم 08.05 لم يشر إليها لا بشكل صريح ولا ضمني، مما يعني أن المشرع لم يوسع مع أفقه وظل متمسكا بالنزاعات الكلاسيكية[11].
ومن جانب آخر لم تتضمن المقتضيات القانونية المتعلقة بالوساطة الاتفاقية النص صراحة على حق المتنازعين في الاستعانة بمحاميهم عند اعتمادهم اللجوء إلى الوساطة. وهو ما يجعل التشريع المغربي يكاد يشكل استثناء[12]بين التشريعات المقارنة التي نصت على حق المتنازعين في الدفاع بواسطة محاميهم في إطار الوساطة على غرار ما هو جار أمام المحاكم القضائية.
وعلاوة على ذلك، فالقانون رقم 28.08 المتعلق بتعديل القانون المنظم لمهنة المحاماة لم يتضمن ما يشير إلى ذلك ماعدا ما ورد في المادة 9 منه التي اقتصرت على ذكر ان مهنة المحاماة لا تتنافى مع القيام بمهام التحكيم والوساطة[13]بانتداب من القضاء أو بطلب من الأطراف[14].
وفي نفس الإطار فإنه بالرجوع إلى المادة 64/327 من القانون 08.05 المتعلق بالتحكيم والوساطة الاتفاقية نجدها تنص في فقرتيه الأولى والثانية بوجوب التصريح بعدم القبول من قبل المحكمة متى وجد اتفاق أو شرط الوساطة صحيح أي لم يكن باطلا بطلانا مطلقا، غير أن الفقرة الثالثة من المادة المذكورة تجعل التصريح بعدم القبول مقيدا بشرط الدفع بذلك ممن له المصلحة. وهكذا فعدم إشارة المحكمة تلقائيا لعدم القبول يفرغ هذا القانون من محتواها وفعاليته ويعدم الاتفاقات والشروط من جدواها[15].
ولعل هذا التناقض كان من الممكن تجاوزه، لا لخلق انسجام بين نصوص القانون ولكن بين فقرات النص الواحد.
وتجدر الإشارة إلى أن آثار الوساطة هي نفسها آثار الصلح.
إذ جاء في الفصل 69/327 من قانون 08.05 “يكتسي الصلح بين الأطراف قوة الشيء المقضي به ويمكن أن يعدل بالصيغة التنفيذية، وهنا يثير إشكالا في حالة عدم تذييل الاتفاق المتوصل إليه بالصيغة التنفيذية، فهل يكون له نفس الحجية؟ أي هل إجراء التذييل هو الذي يعطيه قوة إلزامية؟
الفقرة الثانية: محدودية آليات الرقابة القضائية
من خلال الوقوف على مجموعة من المقتضيات يتضح لنا أن مجال تدخل القضاء لمراقبة اتفاقات الوساطة واسع[16]، إلا أنه بالرغم من ذلك تبقى هذه الرقابة محدودة وذلك في ظل غموض النصوص القانونية، وأيضا في ظل التطورات التقنية، بما في ذلك إمكانية التواصل عن بعد وإبرام العقود الالكترونية المتعلقة بالوساطة مما يستوجب معه تمكين القضاء من التقنيات والآليات التي تمكنه من بسط رقابته على هذه المقررات والاتفاقات.
وتجدر الإشارة أنه بالرجوع لبعض التشريعات المقارنة نجد أن القضاء يلعب دورا جد مهم في حث الأطراف على اللجوء للوساطة، ومن ذلك النظام البريطاني إذ أن من واجب القضاء التشجيع على الوساطة، وذلك طبقا للفصل 1-4 في القضايا المتعددة المسالك والقضايا السريعة التعقيد. إذ لا يقبل القضاة إدعاء المحامين جهلهم للوساطة[17].
وما ينبغي الإشارة إليه أن إبراز مكامن الخلل والقصور في هذا القانون لا يعني بتاتا محاولة الانتقاص من قيمته. وإنما الرقي به وإبراز مكامن الخلل فيه التي ينبغي تسليط الضوء عليها من أجل محاولة تداركها.
المطلب الثاني: آفاق تجاوز محدودية أحكام الوساطة الاتفاقية
هناك مجموعة من العوامل المساعدة على نجاح الوساطة ولعل أهمها تنقيح قانون الوساطة الاتفاقية، ثم تأهيل شخص الوسيط.
الفقرة الأولى: تنقيح قانون الوساطة الاتفاقية
مادام المشرع المغربي اختار إدماج الوساطة في النظام القانوني فإنه من الواجب عليه تسيير الاسباب الأساسية لهذا الإدماج من ذلك حسب بعض الفقه[18]إحداث مؤسسة شبه مستقلة تحدد مهمتها في تقديم الخدمات في مجال الوساطة ووضع تصور واقعي لعملها وهيكلتها واختصاصاتها وكذا نظامها الداخلي.
وكذلك وضع قانون تنظيمي من شأنه ان يحدد معايير لممارسة مهمة الوساطة، وكذا تحديد مجالا تطبيق نظام الوساطة بدقة بدل الاكتفاء بالإحالة على المقتضيات المتعلقة بالصلح مع ضرورة الحفاظ على خصوصيات كل نزاع على حدة[19].
إدراج مقتضيات خاصة بهذه المنازعات والتنصيص على المقتضيات المتعلقة بالوساطة الالكترونية.
على مستوى التنفيذ يتعين سن طرق فعالة لتنفيذ هذا الاتفاق.
الفقرة الثانية: تأهيل شخص الوسيط
إن نجاح عملية الوساطة يقتضي تأهيل شخص الوسيط، وهذا التأهيل يلقى بالأساس على عاتق القائمين على إنجاح هذا النظام وبشراكة مع كل الفاعلين في هذا المجال من أجل محاولة إيجاد بنية مستقبلية للتطبيق السليم لهذا القانون، ولعل أهم ما يمكن القيام به في هذا الإطار هو إنشاء معاهد لتكوين الوسطاء، يكون هدفها التأهيل النظري وكذا التطبيقي للشخص الذي سيضطلع بمهمة الوساطة.
إذ أنه ليس من الممكن أن يكون أي شخص مؤهلا لإنجاح هذه العملية، لأن اختيار شخص الوسيط يكون من خلال مؤهلاته، ومهاراته وكذا حصوله على تدريب كاف يمكنه من إدارة الحوار بين الأطراف ومساعداتهم على الوصول إلى صلح، كما أن الخبرة في هذا المجال تلعب دورا جد مهم. هذا بالإضافة إلى المشاركة في البرامج التعليمية ونشاطات أخرى للمحافظة على مداركه المعرفية وتطوير مهاراته المتعلقة بالوساطة[20].
ويحتاج كذلك النظام القانوني المتعلق بالوساطة الاتفاقية إلى ضرورة تطعيمه بنصوص تعادل تجاوز الخلل الذي اعتراه سيما فيما يتعلق بتنظيم دور الوسيط وكذا وضع ضوابط تحكم هذه المهنة، ومعايير تحدد طريقة ولوجها والأشخاص الذين يحق لهم مزاولتها.
بالرجوع إلى بعض التجارب المقارنة نجد أنها تحدد الضمانات التي يجب أن يتوفر عليها القانون الأساسي المؤطر لمهنة الوساطة.
فمثلا برجوعنا للقانون الفرنسي نجد أنه قام بوضع شروط لمزاولة هذه المهمة بدقة متناهية إذ يحدد الدور المسند للوسيط، وأيضا الشروط الموضوعية الواجب عليه القيام بها ومن ذلك ضمان حسن فهم مراحل الوساطة، وأيضا ضرورة اتسامه بالحياد والموضوعية وعدم الانحياز وأيضا كتمان السر المهني. الحصول على الدبلوم.
لقد حاولنا من خلال هذا العرض الإحاطة بالمقتضيات القانونية المتعلقة بالوساطة الاتفاقية مع رصد مجموعة من النقائص التي تعتري هذا النظام وآفاق تجاوزها إلا أن هذا لا يعني الانتقاص منه، هذا لأن المشرع المغربي وضع لبنة أساسية لبناء العدالة التصالحية من شأنها وضع حد للمنازعات وتخفيف العبء عن القضاء.
لائحة المراجع
اسماعيل اوبلعيد، الطرق البديلة لتسوية المنازعات، دار النشر طوب بريس 2015.
بنسالم اوديجا، الوساطة كوسيلة من الوسائل البديلة لفض المنازعات، دار القلم الرباط، الطبعة 2009.
الملودي العابد العمراني، الوساطة في التشريع المغربي و المقارن، اطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص، جامعة الملك السعدي طنجة الموسم الجامعي 2011-2012.
كوثر الهلالي، الوساطة الاتفاقية، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون الخاص، جامعة القاضي عياض، السنة الجامعية 2011-2012.
ادريس نقوري، نظرية الوساطة في الفكر و الفن، منشورات جامعة شعيب الدكالي، الطبعة الأولى 1992.
محمد اطويف، الوساطة الاتفاقية على ضوء قانون 08.05، منشورات مجلة القضاء المدني، العدد الأول الطبعة الأولى .
احمد اذ الفقيه، قراءة في مشروع قانون الوساطة بالمغرب،اجتهادات المجلس الأعلى مطبعة الأمنية الرباط الطبعة 2007.
محمد اطويف، الوساطة الاتفاقية،على ضوء القانون 08.05 مجلة القانون عدد 14 السنة 2013.
امحمد برادة غزيول، تجربة الممكلة المتحدة في مجال الحلول البديلة لفض النزاعات ، مقال منشور بمجلة المعيار عدد 37 الطبعة 2007.
[1] الملودي العابد العمراني، الوساطة في التشريع المغربي المقارن، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص، جامعة عبد المالك السعدي كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية طنجة الموسم الجامعي 2011-2012، ص 128-129.
[2] أنظر الفصل 60-327 من قانون 05-08.
[3] محمد اوطريف، الوساطة الاستقامة على ضوء قانون 05-08، منشورات مجلة القضاء المدني، العدد الأول، الطبعة 1 ص 32.
[4] ينص الفصل 62-327 من قانون 08.05 على أنه يجب تحت طائلة البطلان، أن تحرير شرط الوساطة كتابة في الاتفاق الأصلي في وثيقة تحليل إليه ويجب تحت طائلة البطلان، أن يتضمن شرط الوساطة إما تعين الوسيط او الوسطاء، أو التنصيص على طريقة تعينهم.
[5] -الفصل 327.55 من قانون 08.05.
[6] المشرع هنا وسع من مفهوم الكتابة وذلك تماشيا مع ما جاء به القانون الجديد المتعلق بتبادل المعطيات الالتكرونية.
[7] المحكمة التجارية بالرباط 18/03/2008 ملف عدد 1146/1/2008 غير منشور.
[8] أنظر الفصل 65-327 من قانون 08.05.
[9] محمد أطويف، مرجع سابق، ص 31.
[10] إسماعيل أوبلعيد، الطرق البديلة لتسوية المنازعات. دار النشر طوب بريس 2015، ص 207.
[11] اسماعيل أوبلعيد، الطرق البديلة لتسوية المنازعات. مرجع سابق ص 208.
[12] أحمد إدالفقيه: قراءة في مشروع قانون الوساطة بالمغرب، مداخلة في ندوة الصلح والتحكيم والوسائل البديلة لحل النزاعات من خلال اجتهادات المجلس العلى، الندوة الحادي عشر قص المؤتمرات بالعيون 01-02 نونبر 2007 مطبعة المنية الرباط، طبعة 2007 ص 452-453.
[13] وهذه الحالة تتعلق بالوضعية التي يتدخل فيها المحامي كمحكم أو وسيط وليس كمستشار قانوني يكون حاضرا عند عملية التسوية. وغني عن البيان أن تواجد المحامي بجانب الأطراف في مسلسل الوساطة تبرره اعتبارات عملية متمثلة بالأساس في أنه لا يشترط في الوسيط أن يكون رجل قانون، وبالتالي فالأطراف يكونون في حادة إلى من يحدد لكل واحد منهم مركزه القانوني.
[14] محمد أطويف، الوساطة الاتفاقية على ضوء القانون 08.05 مجلة الحقوق عدد 14، السنة 2013 ص 188.
[15] كوثر الهلالي، الوساطة الاتفاقية، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون الخاص، جامعة القاضي عياض، مراكش، السنة الجامعية 2011-2012 ص 98.
[16] مراقبة القضاء للوساطة تبدأ من اتفاق الأطراف على اللجوء إلى الوساطة وفق أحكام المادتين 53/327 و 54/327 من قانون 08.05، وتتجلى رقابة القضاء لاتفاق الوساطة أيضا مدى احترامه لمقتضيات الفصل 62 من ق.ل.ع. كما تتجلى رقابة القضاء للوساطة في مراقبة مدى احترامه لمقتضيات الفصل 53/327 الذي أكد على أنه يشترط لسلوك مسطرة الوساطة أن تتم مراعاة الشروط أو الحدود المقررة لصحة الصلح ومن ثم فإن المشرع عندما قضى بضرورة تحديد موضوع النزاع في اتفاق الوساطة فإنه منع للمحكمة مكنة مراقبة اتفاق الوساطة وتكون أيضا رقابة المحكمة مبسوطة عند تقديم طلب تعديل الصلح المتوصل إليه بالصيغة التنفيذية، إذ تكون للمحكمة كامل السلطة في مراقبة مدى احترام الاتفاق شكلا وموضوعا، للقوانين النافذة بالمغرب خاصة ما يتعلق بالنظام العام حسب طبيعة العقد أو الاتفاق.
[17] امحمد برادة عزيول،تجربة المملكة المتحدة في مجال الحلول البديلة لفض النزاعات، مقال منشور بمجلة المعيار عدد 37 يونيو 2007. ص24.
[18] بنسالم أوديجا، الوساطة كوسيلة من الوسائل البديلة لفض المنازعات. دار القلم الرباط، الطبعة 2009، ص 354.
[19] كوثر الهلالي، الوساطة الاتفاقية، مرجع سابق، ص 106.
[20] اسماعيل أوبلعيد، الطرق البديلة لتسوية المنازعات، مرجع سابق، ص 250.