الوساطة كوسيلة بديلة تعريفها أهميتها ومميزاتها:
إن الوسائل البديلة لتسوية النزاعات أصبحت ذات أهمية بالغة في الوقت الراهن، خاصة في ظل الاكراهات التي يعانيها مرفق القضاء من كثرة القضايا المعروضة عليه وتراكمها، بالإضافة إلى البطء في إصدار الأحكام وفي تنفيذها، وبالتالي التأخر في تطبيق العدالة.
وتعتبر الوساطة إحدى أبرز وسائل تسوية النزاعات بل وتشكل في العصر الحالي الوسيلة الأكثر عصرنة وتقدما، وأداة فعالة لتصريف العدالة، لما تمتاز به من قدرة على الانصهار في العديد من النزاعات كيفما كانت طبيعتها، لسرعة فصلها في النزاعات، ومرونة إجراءاتها، واتسام مساطرها بالسرية، وما للأطراف من دور فعلي في صناعة الحل، لذلك أضحت تحظى باقبال متزايد لدى جميع الفاعلين، واعتماد الوساطة
وآلية الوساطة ليست آلية وليدة العصر، بل هي متجذرة في التاريخ وفي تراثنا الإسلامي، فالصلح باعتباره الغاية التي تهدف الوساطة إلى تحقيقه كان معروفا في الحضارات القديمة قبل مجيئ الإسلام، إذ كان أعيان ابائل يصالحون بين الناس بمقتضى الأعراف والتقاليد السائدة آنذاك، وتعتبر الأعراف الأمازيغية في المغرب رائدة في هذا المجال، وبعد مجيئ الإسلام دعا إلى إصلاح ذات ابين بين الناس، فقد وردت العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تدعوا إلى الإصلاح بين الناس، فمن القرآن قوله تعالى: ” لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس” الأنفال الآية 1.
تعريف الوساطة:
في اللغة:
الوساطة في كلام العرب، تعني” الوسط والتوسط” بمعنى الاعتدال في القول والفعل والفكر، وأوسط الشيء أفضله وخياره، والوسيط في القوم حسيبهم.
وسطه توسيطا: أي قطعه نصفين وجعله في الوسط، ووسط الشيء ما بين طرفيه.[1]
والوسط لفظ مأخوذ في اللغة من وسَط بفتح السين، ويقال وسط الشيء أي بين طرفيه، ومنه قوله تعالى: ” وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ” أي عدلا فهذا تفسير الوسط وحقيقة معتادة، وإنه اسم لما بين طرفي الشيء، والوسيط: المتوسط بين المتخاصمين، وتوسط بينهم عمل الوساطة، وأخذ الوسط بين الجيد والرديء.[2]
وتشير الوساطة إلى: توسط في الحق والعدل، وأوسطهم، أي أقصدهم إلى الحق.[3]
تعريف الوساطة في الاصطلاح:
تعريف الفقه للوساطة:
عرف الأستاذ محمد سلام الوساطة بأنها: ” المساعي التي يقوم بها وسيط محايد بين طرفي النزاع، وتتمثل في تقديم المساعدة لهما معا حتى يتمكن كل منهما من تقييم مركزه القانوني والواقعي في النزاع، ويكون على بينة من المكاسب والأضرار الكاملة وراء استمرار النزاع.[4]
وعرفها حسن القيسي بكونها:: تدخل في نزاع أو في عملية تفاوض يقبل الأطراف أن يقوم بها طرف ثالث _ من صفاته أن يكون غير منحاز، حيادي ولا يملك السلطة أو القوة لصنع القرار، وذلك بهدف مساعدتهم بطريقة تطوعية في الوصول إلى اتفاقية خاصة بهم مقبولة منهم.[5]
التعريف التشريعي للوساطة:
– في التشريع المغربي:
لم يعرف المشرع المغربي الوساطة كآلية بشكل عام، في حين أنه اكتفى في المقابل بتعريف اتفاق الوساطة، حيث نص الفصل 56-327 على أن: “اتفاق الوساطة هو العقد الذي يتفق الأطراف بموجبه على تعيين وسيط يكلف بتسهيل إبرام صلح لإنهاء نزاع نشأ أو قد ينشأ فيما بعد”.
وفي التوجيهية الأوربية المتعلقة بالوساطة في المادة المدنية والتجارية:
تم تعريف الوساطة في المادة 3 بما يلي: ” الوساطة مسطرة مهيكلة تتم أحيانا بأسلوب محدد أو معين، بواسطتها يقوم شخصين أو أكثر بحل نزاع بينهم بطريقة إدارية عن طريق الوصول إلى اتفاق ودي بينه بمساعدة الوسيط، ويمكن اللجوء إليها بمبادرة واقتراح الأطراف، أو باقتراح القاضي.
أهمية الوساطة في حل النزاعات:
أهمية الوساطة الاجتماعية:
تشكل الوساطة رؤية جديدة للمجتمع قوامها ترسيخ الارتباط بين أفراده، وهي تهدف إلى تحقيق الحرية الفردية والوعي الاجنماعي، وهي وسيلة تسعى إلى تلقين الأفراد مبادئ الحوار الخلاق والهادف والمفاوضة النزيهة بغاية حل مختلف المشاكل، والحفاظ على استمرارية العلاقات الإنسانية، بين أفراد المجتمع وكيفما كانت نوعية العلاقة، وهي وسيلة غايتها تحقيق الوعي بمصالح الآخرين، ومنحهم القدرة على فهم بعضهم البعض. وتمكينهم من الوصول إلى حلول وتسويات خلاقة ذات بعد انساني يحافظ على مصالح الجميع.
أهمية الوساطة الاقتصادية:
إن اعتماد الوساطة في منظومة تسوية النزاعات في جل الدول المتقدمة، والنجاحات التي حققتها وتميزها عن غيرها من الوسائل الأخرى، جعلها الآلية الكفيلة والقادرة على مواكبة جميع الفاعلين الاقتصاديين، حيث أنها تمكنهم من تفادي اللجوء إلى القضاء الرسمي، وما يعانيه من اختلالات، وتضمن لهم استمرار علاقاتهم ومصالحهم الاقتصادية، كما تضمن سرية معاملاتهم ونزاعاتهم، وتمكنهم من تحقيق المرونة المنشودة عند قيام النزاع، والوصول الى التسوية السريعة له وبأقل الخسائر، وبمعادلة رابح / رابح، وهذه غايات فضلى لكل تاجر ومستثمر، وفاعل اقتصادي يسعى إلى تحقيق الربح، وقد جعلت هذه الاعتبارات وغيرها الوساطة في صميم الاهتمامات الاقتصادية الحديثة، وهو الأمر الذي جعلها تحتل موقعا مرموقا، في النزاعات ذات البعد الدولي والوطني.
أهمية الوساطة القانونية:
لقد أصبح من أهم المعايير المعتمدة في تقييم مدى فعالية الأنظمة القانونية والقضائية المعاصرة، المعيار المتعلق بما توفره هذه الأنظمة من إمكانيات لتسهيل الولوج إلى العدالة، وتتخذ سهولة الولوج إلى العدالة.
ولما أصبحت تقوم به الوساطة من أدوار بفضل غاياتها المثلى، فقد أضحت توصف بكونها موضة العصر والأخذ بها في الأنظمة القانونية مواكبة منها لمختلف التحولات، يدخل في صميم عصرنة الأنظمة القانونية في سبيل ترسيخ قيم العدالة التوافقية.
كذلك من أهمية الوساطة، خلق اتفاقات قانونية فعالة تنهي الخصومة، وتكون مضمونة في التنفيذ، دون الدخول فيما يتطلبه الحكم القضائي من إجراءات طويلة، قد تنتهي بالتنفيذ أو استحالته.
خصائص الوساطة:
لقد أضحت الوساطة سبيلا ناجعا وفعالا للوصول إلى العدالة، وذلك بفضل مجموعة من الخصائص تتميز بها، ومن ضمنها ما يلي:
السرعة:
يعد البطء في اصدار الأحكام السمة السوداء التي تطبع العمل القضائي، لذلك تعتبر الوساطة أكثر سرعة من القضاء وحتى من التحكيم، وذلك راجع لفصها في النزاعات في مدة وجيزة ومحددة، حيث عملت مختلف التشريعات على وضع أقصى مدة يمكن أن تتم فيها عملية الوساطة، وفي هذا الاطار حددها المشرع المغربي في ثلاثة أشهر.
المرونة:
تتصف إجراءات الوساطة بمرونة إجراءاتها بعيدا عن التعقيد الذي هو سمة تطبع الإجراءات القضائية، وبالتالي فالوساطة لا تخضع لتلك الشكليات والمساطر التي يلزم اتباعها في الدعوى القضائية، بحيث إنه في الوساطة يبقى للأطراف حرية اختيار الوسيط، وموعد عقد الجلسات، وبامكانهم التأجيل والتقديم فيها، ولديهم الحرية في البقاء في لوساطة او الانسحاب منها، كما أن الحل يكون من صنعهم. وهي ما لا يتوفر في غيرها من الوسائل، ما يجعلها وسيلة مميزة في تسوية النزاعات.
السرية:
تتميز إجراءات الوساطة بالسرية، وذلك خلافا لإجراءات المحاكمة القضائية التي تعتبر العلنية إحدى ركائزها، فما يجري بين الأطراف وما يثار من نقاشات يمر في أجواء سرية لا يعلم به إلا أطراف النزاع، والوسيط في هذا الإطار يعمل على الحرص على سرية ما يتداول في عملية الوساطة، وذلك يسهم في حفظ سمعة وأعراض الأطراف، وجل التشريعات التي اعتمدت الوساطة في أنظمتها نصت على احترام مبدأ السرية في عملية الوساطة.
قلة التكاليف:
تتسم عملية الوساطة بقلة تكاليفها، وهو ما تتميز به عن المساطر القضائية، حيث إن تعدد درجات التقاضي وكثرة طرق الطعن لا يساهم في استقرار المراكز القانونية للأطراف، إلى جانب ارتفاع تكاليف اللجوء إلى القضاء بدءا بالرسوم والمصاريف القضائية، وانتهاء بأتعاب المحامين والخبراء والأعوان القضائيين، وبمقارنة الوساطة بالتحكيم، فالوساطة ذات تكلفة أقل من التحكيم، وبذلك تعمل الوساطة على توفير الجهد والوقت والنفقات.
مشاركة الأطراف في حل النزاع:
تمكن الوساطة الأطراف من حل نزاعهم بشكل ودي، حيث أن الحل بهذه الوسيلة ينبني بصورة رئيسية من قطبي النزاع، بغاية تحقيق معادلة رابح/ رابح، وكل الحلول المتوصل إليها بهذا الشأن تكون من صنع الأطراف أنفسهم، وباقتراحهم، وكذلك بشرط قبولهم بها.
[1] ابن منظور، لسان العرب، باب الواو، ج/52، تحقيق عبد الله علي، محمد أحمد الشاذلي، دار المعارف القاهرة، ص: 2485.
[2] مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، القاموس المحيط، تحقيق محمد نعيم العرقسوسي، مؤسسة الرسالة، ط/8، 2005، ص: 698.
[3] أحمد محمد بن علي المقري الفيومي، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، المكتبة العلمية، بيروت، ج/2، ص: 659.
[4] مداخلة ذ محمد سلام في الندوة العلمية من طرف كلية الحقوق بفاس، بشراكة مع وزرة العدل وهيئة المحامين بفاس، يومي 4 و5 أبريل 2003، منشور بالعدد/2، من منشورات نشر المعلومة القانونية والقضائية، مطبعة فضالة المحمدية، توزيع دار القلم الرابط، ص: 83.
[5] طلعت حسن القيسي، مهارات تطبيقية في حل النزاع، الجزءء الأول، دون مكان نشر، دون تاريخ نشر، ط:1، ص:117.