النظام القانوني للوساطة الأسرية بالتجربة الفرنسية:
تحتل الوسائل البديلة لحل النزاعات مكانة بارزة في الفكر القانوني الحديث، إن على مستوى الدراسات الفقهية رغم قلتها، أو على صعيد إقرارها بمختلف الأنظمة القانونية والقضائية العصرية.
ویمكن تعریف الوسائل البدیلة لتسویة المنازعات بكونھا: ” مختلف الآلیات أو الوسائل التي تلجأ إلیھا الأطراف لإدارة وحل النزاع خارج إطار الوسیلة الأصلیة المتمثلة في “المنازعة القضائیة” وذلك من أجل التوصل إلى حل خلافاتھم، حیث یتم اللجوء إلى طرف ثالث محاید بدل اعتماد الدعوى القضائیة.[1]
وقد أصبح اللجوء إلى الطرق البديلة لفض المنازعات أمرا ملحا في وقتنا الراھن، فرضته ضرورة تخفیف العبء عن المحاكم من كثرة القضایا المعروضة علیھا، والتي باتت تثقل كاھل القضاة والموظفین، الأمر الذي أثر سلبا على سیر إجراءات التقاضي التي یطول أمدھا، والتي زاد من حدتھا تعقد الإجراءات والمساطر وتسییرھا البطیئ الناتج عن تفاعل مؤشرات وتدخل عدة فاعلین.
ونظرا لكون الوسائل البديلة قد نجحت في حل العديد من الإشكالات القانونية المستعصية على المستوى الدولي والداخلي للدول، ونجحت أيضا في التخفيف في العديد من الاكراهات التي تعاني منها المؤسسات القضائية التقليدية، فقد تدخلت جل الدول لاقرارها وإعطائها هامشا مهما في تشريعاتها الوطنية، وأصبحت تشكل إلى جانب التنظيم القضائي الرسمي سمات العدالة الناجعة والناجزة.
إقرأ أيضا: الوساطة الأسرية بالمغرب بين تحديات الواقع والآفاق المستقبلية
وتعد الوساطة إحدى أهم الوسائل البديلة لفض النزاعات التي تعرف انتشارا واسعا خلال هذا العصر في مختلف الأنظمة والمدارس القانونية والقضائية عبر العالم، ويعود سبب ذلك لمرونة هذه الآلية وفعاليتها ي تسوية النزاعات بأقل تكلفة وأسرع وقت ممكن، مما مكنها من فرض وجودها كآلية ودية لتسوية النزاعات، واكتساح عدة مجالات.
ونظرا لتحقيق الوساطة كآلية لتسوية النزاعات نتائج إيجابية ومحفزة في المجال التجاري، انتقل تطبيقها إلى باقي المجالات الأخرى التي فرض تطور الحياة ومراعات الجوانب الإنسانية في بعض النزاعات منها، وما تخلفه من آثار سلبية على بعض الأفراد الجديرين بالحماية، وباقي أطراف العلاقة الاجتماعية، كالمجال الأسري الذي تتعدى آثار النزاعات فيه أطرافها وتمتد إلى الغير كالأطفال، حيث بدأ التفكير جديا في طبيعة الآليات التي يجب أن تتولى تسوية هذا النوع من النزاعات والإجراءات التي يجب اتباعها في تسويتها، وتم بذلك أن تم تطبيق الوساطة في هذا المجال.
وتعد الدول الأنجلوساكسونية وعلى رأسها المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، أول الدول التي عرفت وطبقت الوساطة في النزاعات الأسرية بمفهومها الحالي.
وتعتبر الوساطة الأسرية كما هي حاليا في نظام الدول ذات المرجعية اللاتينية، امتدادا واقتباسا من قوانين الدول ذات المرجعية الأنجلوساكسونية ومن ضمنها فرنسا ، وقد أخذت هذه الأخيرة بهذه الآلية كوسيلة بديلة نتيجة عدة عوامل، كما مرت بعدة مراحل منذ أن اقتبستها عن طريق رحلات استكشافية علمية بكندا بعدة مراحل حتى أصبحت ذات تنظيم قانوني.
من هنا يمكن طرح الأسئلة التالية:
ما هي عوامل ظهور الوساطة الاسرية بفرنسا؟
ما هي مراحل مأسسة الوساطة الاسرية بالتجربة الفرنسية؟
تقسيم الموضوع:
المطلب الأول: عوامل ظهور الوساطة الأسرية بفرنسا ونشأتها
المطلب الثاني: تقنين الوساطة الأسرية بالتجربة الفرنسية
المطلب الأول: عوامل ظهور الوساطة الأسرية ونشأتها بفرنسا
تعد الوساطة الأسرية من بين أهم الطرق البديلة لحل المنازعات التي حظيت باهتمام كبير من مختلف التشريعات الأجنبية، حيث تشكل الوسيلة الأولى والمفضلة لتسوية النزاعات في ظل الأنظمة المقارنة، مما جعلها تعرف انتشارا واسعا وتطورا ملحوظا، ومن بين التجارب الرائدة في الوساطة الأسرية نجد التجربة الفرنسية، إذ تعتبر من بين الدول السباقة في اعتمادها في ترسانتها القانونية.
قبل أن نشرع في الحديث عن العوامل التي أدت إلى ظهور الوساطة الأسرية يقتضي منا الحال بداية بيان المقصود من مفهوم الوساطة الأسرية في اللغة والاصطلاح.
v تعريف الوساطة الأسرية
ü الوساطة في اللغة: مشتقة من وسط يوسط وساطة، ووسط الشيئ أوسطه أعدله.
o وفي التنزيل الحكيم: ” وكذلك جعلناكم أمة وسطا”[2] قال الزجاج فيه قولان قال بعضهم وسطا: عدلا. وقال بعضهم: خيارا. وقيل في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، إنه كان من أوسط قومه، أي خيارهم.[3]
ü تعريف الوساطة: عرفها البعض بكونها: تدخل في نزاع أو في عملية تفاوض يقبل الأطراف أن يقوم بها طرف ثالثمن صفاته أن يكون غير منحاز، حيادي، ولا يملك السلطة أو القوة لصنع القرار وذلك بهدف مساعدتهم بطريقة تطوعية في الوصول إلى اتفاقية خاصة بهم ومقبولة منهم.[4]
ü أما تعريف الوساطة الأسرية اصطلاحا عرفها البعض بكونها: “عملية بناء أو إعادة بناء الروابط العائلية، تتمحور حول استقلالية ومسؤولية الأشخاص المعنية بوضعيات الشقاق أو الانفصال، يعزز فيها شخص ثالث هو الوسيط الأسري المحايد والمستقل والمؤهل والذي ليس له سلطة اتخاذ القرار، تواصلهم ويحملهم من خلال تنظيم لقاءات سرية على تدبير نزاعهم الأسري الممتد في تنوعه وتطوره”.[5]
v العوامل المساهمة في تقنين الوساطة الأسرية بفرنسا
ظهرت الوساطة الأسرية بفرنسا نتيجة تظافر مجموعة من العوامل، ويمكن اجمالها فيما يلي:
ü ارتفاع نسب الطلاق والانفصال منذ فترة الثمانينات من اقرن الماضي.
ü نمو النزعة الفردية خصوصا لدى النساء، نتيجة تحقق بعض مطالبها من طرف المشرع الفرنسي، من مساواة بينهن وبين الرجال في بعض الحقوق، وزيادة إمكانية وصولهن للعمل في مناصب المسئولية المهنية والسياسية والاجتماعية، الأمر الذي نتج عنه تطور في الحياة الزوجية، وتغير في الأدوار، داخل الأسرة، وظهور أشكال جديدة لها.
ü حماية الأطفال ضحايا الطلاق وتحسين ظروفهم بعد انفصال الأبوين أو طلاقهما. حيث جاء التفكير في الوساطة الأسرية كآلية لحماية الطفولة أولا وقبل كل شيئ، حيث من بين القيم التي أسست عليها الأبوة المشتركة، الأخذ في الاعتبار الحاجة الأساسية للطفل في البقاء على اتصال مع أبويه معا.
ü ما كانت تقوم به بعض المحاكم من قبيل محاكم باريس إذ كانت تقوم بتعيين الوسطاء دون موافقة الأطراف، استنادا إلى تفسير للمادة 21 من قانون المسطرة المدنية وذلك قبل صدور قانون 8 فبراير 1995.
المطلب الثاني: نشأة الوساطة الأسرية بالتجربة الفرنسية:
لقد نشأت الوساطة الأسرية في فرنسا في ثمانينيات القرن الماضي على غرار باقي الدول الأوروبية، وكانت بدايتها عبر ممارسة الجمعيات والمنظمات الاجتماعية دون أن يكون هناك مفهوم للوساطة الأسرية، وقد استعمل هذا المصطلح “الوساطة الأسرية” لأول مرة في العاشر من دجنبر سنة 1983 في بروكسيل، خلال اجتماع الحركات الأوروبية المهتمة بقضايا الأسرة.[6]
وبعد مجموعة من النقاشات الاجتماعية حول الوساطة الأسرية بفرنسا جاءت مرحلة التطبيق العملي لها، حيث بدأت جمعية الأب الأم الطفل في ممارسة الوساطة في النزاعات الأسرية، وهي أول جمعية بفرنسا اهتمت بهذه الآلية وحاولت تطبيقها على أرض الواقع، وعملت على تطويرها، وفي يناير سنة 1988 عقدت هذه الجمعية مؤتمرا حول الوساطة الأسرية.
وقد صدر بتاريخ 08 فبراير 1995 قانون 125/95 ومرسومه التطبيقي 652/ 96 الصادر في 22 يونيو 1996 لتكريس الوساطة الأسرية، وبذلك تعد فرنسا الدولة الأوروبية الأولى التي أصدرت تشريع خاص بالوساطة، وقد مكّنت المادة 1-131من قانون المسطرة المدنية الفرنسية القاضي المكلف بالنزاع بعد حصوله على موافقة الأطراف المتنازعة بتعيين شخص ثالث من أجل الاستماع للأطراف وتقريب وجهات نظرهم من أجل الوصول إلى حل للنزاع القائم بينهم، وهذا الإجراء تم الأخذ به في فرنسا كتدبير موجه لتخفيف العبء على القضاء.[7]
وقد نصت المادة 131-5 على ما يلي: الشخص الطبيعي المكلف بإجراء الوساطة يجب أن تتوفر فيه الشروط التالية:
1_ ألا يكون محط إدانة أو فقدان أهلية أو سقوط المعين في الجريدة رقم 2 في السجل العدلي.
2_ لا يجب أن يكون قد قام بأفعال مخالفة للشرف أو الاستقامة أو للأخلاق الحميدة والتي أدت به إلى عقوبة تأديبية أو إدارية من إقالة وشطب، عزل، سحب التعيين أو الترخيص.
3_ امتلاكه من خلال ممارسة نشاطه على المؤهلات المطلوبة بناء على طبيعة النزاع.
4_ أن يكون له تكوين وخبرة من خلال الممارسة العملية للوساطة.
5_ ضمانات الاستقلال الضروري في ممارسة الوساطة”.
ونصت المادة 131-4 على إمكانية قيام الشخص الطبيعي أو الجمعية بعملية الوساطة، حيث جاء فيها ما يلي:
” يعهد بالوساطة أحيانا إلى شخص طبيعي أو جمعية
وإذا كان الوسيط المعين هو جمعية فإن ممثلها القانوني يخضع لموافقة القاضي من حيث اسم الشخص أو الأشخاص الطبيعيين الذين يقومون بضمان باسمها ويقومون بتنفيذ الاجراءات”
وفي سنة 2001 تم إحداث المجلس الاستشاري الوطني للوساطة الأسرية بمرسوم وزاري
وقد عمل هذا المجلس على توحيد قواعد العمل في مجال الوساطة الأسرية.
وإن التنصيص على الوساطة العائلية بشكل قاطع وحاسم في قانون المسطرة المدنية الفرنسي جاء من خلال قانون 4 مارس 2002 الذي دخل حيز التنفيذ سنة 2003 المتعلق بالوساطة الأبوية هذا الأخير الذي نص في الفصل 10_2_373 من قانون المسطرة المدنية الفرنسي على أنه:
” في حالة عدم الاتفاق يبذل القاضي قصارى جهده للإصلاح بين الأطراف.
ومن أجل تيسير ممارسة السلطة الأبوية بشكل رضائي من طرف الآباء، يمكن للقاضي أن يقترح عليهم إجراء الوساطة وبعد تلقيه موافقة الأطراف يقوم بتعيين الوسيط الأسري.
ويمكن له أن يأمرهم بلقاء الوسيط الأسري، هذا الأخير الذي سيعمل على إخبارهم بهدف ومسار هذا الاجراء.”[8]
في سنة 2003 تم احداث دبلوم الدولة للوسيط الأسري_demf الذي حدد مجالات تطبيق الوساطة الاسرية في الطلاق والانفصال، والتضامن بين الأجيال، وحماية الطفل.[9]
وقد تدخل المشرع الفرنسي من أجل تعديل القوانين ذات الصلة بهذه المجالات، وجعل المرور من الوساطة الأسرية فيها إجباريا، حيث عدل القانون المتعلق بالطلاق بقانون 26 ماي 2004 وأعطى إمكانية إحالة الأطراف على وسيط من قبل القاضي بعد أخذ موافقتهم، إضافة إلى تعديل القانون الصادر في 5 ماي 2007 المتعلق بحماية الأطفال، الذي جعل الإحالة على الوساطة الأسرية بأمر من قاضي شؤون الأسرة أو قاضي الأحداث، ثم تلا هذا تعديلات وإجراءات بدأها وزير العدل في يونيو من سنة 2008، حيث كلف لجنة لإعداد تقرير حول إمكانية تعديل بعض الإجراءات القضائية، وفتح الباب أمام الأطراف للجوء إلى الوساطة الأسرية قبل رفع الدعوى أو أثناء مرحلة الاستماع إليهما من طرف القضاء.
[1] محمد برادة غزیول، تقنیات الوساطة لتسویة النزاع دون اللجوء إلى القضاء، ط ،1الدار العالمیة للكتاب، 2015م، ص:15 .
[2] سورة البقرة، الآية: 143.
[3] ابن منظور، لسان العرب، المجلد7، دار صادر للنشر، بيروت،د /سنة، د /ط، ص: 430.
[4] محمد سلام، دور الطرق لبديلة لحل النزاعات في اصلاح القضاء وتأهيله لمواجهة تحديات العولمة، المجلة المغربية للقانون والاقتصاد والتسيير، ع 51، 2005، ص: 145.
[5] نور الدين الكامل، الوساطة الأسريةدراسة فقهية قانونية رسالة لنيل شهادة الماستر، كلية العلوم القانونية والاقتصادية بفاس، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، 2016/2017، ص: 7.
[6] عبد العزيز الجطيوي، مقال بعنوان: النظام القانوني للوساطة الأسرية بالتجربة الفرنسية، منشور على الرابط: www.talibdroit.com تاريخ الزيارة: 4 ماي 2020.
[7] ساجية بوزنة، الوساطة في ظل قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري، رسالة لنيل الماستر، جامعة عبد الرحمان ميرة، كلية الحقوق والعلوم السياسية، 2011/2012. ص:133.