عقد القرض في الشريعة الاسلامية: مشروعيته أركانه وشروطه
إن معاملة الإقراض والاقتراض مسألة قديمة لازمت الإنسان منذ عصره الأول؛ ذلك لأن الإنسان كائن اجتماعي لا يستطيع أن يعيش وحده مستغنياً عن بني جنسه؛ لذلك كان الناس يتقارض بعضهم من بعض، كما كانوا يبيعون ويشترون ويتبادلون المنافع.
الفقرة الأولى: مشروعية القرض
مشروعية القرض:
قبل الحديث عن مشروعية القرض، يجدر بنا بيان مفهومه في اللغة والاصطلاح والقانون وذلك كما يلي:
تعريف القرض:
أ_ القرض لغة:
وردت عدة معانٍ للقرض منها : المضاربة، والغيبة، والفناء، ومنها ما أسلف الإنسان من إساءة أو إحسان، وما يقوم به من عملٍ يلتمس الجزاء عليه، ومنها ما تعطيه من مالك لغيرك على أن يقوم برده إليك.[2]
والمعنى الأخير هو المقصود في بحثنا من المعاني آنفة الذك
ب_ القرض اصطلاحا:
عرف الفقهاء القرض بتعريفاتٍ متعددةٍ اختلفت ألفاظها، وسنقوم بإيراد بعض من تلك التعريفات على النحو التالي
: عرفه المالكية بعدة تعريفات نذكر منها : “دفع متمول في مقابل
عوض غير مخالف له ولا عاجلاً تفضلاً فقط.[3]
وعرفوا القرض الحسن بكونه : دفع المال على وجه القربة الله تعالى لينتفع به آخِذُهُ ثم يردُ له مثله أو عينه[4]
أدلة مشروعية القرض
القرض مشروع، والأصل في مشروعيته الكتاب، والسنة، والإجماع
أولاً – الأدلة على مشروعية القرض من القرآن الكريم :
وردت آيات في أكثر من موطن في القرآن الكريم تدل على مشروعية القرض منها :
1_ قوله تعالى: “من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون.[14]
2_ ” إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم”[15]
3 _ “وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا[16]
4 :﴿ إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ﴾ [ التغابن : الآية17] . ثانيا: في السنة النبوية : أكدت السنة النبوية الشريفة على أهمية التراحم والتكافل بين المسلمين فقال الرسولr : مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ . ومن الصور الأساسية لهذا التكافل و التعاون صورة الإقراض والاستقراض بين أبناء المجتمع ، فتعددت الأحاديث عن النبي rالتي تثبت مشروعيتهما مدعمة بأقوال النبي rو أفعاله : عن ابن مسعود أَنَّ النَّبِيَّ r قَالَ : [ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُقْرِضُ مُسْلِمًا قَرْضًا مَرَّتَيْنِ إِلاّ كَانَ كَصَدَقَتِهَا مَرَّةً] . قال علقمة : كذلك أنبأني ابْنُ مسعود ([18]) . قال في البحر : موقعه أعظم من الصدقة ، إذ لا يقترض إلا محتاج ([19]).
ثالثا: في الإجماع :
أجمع المسلمون على جواز القرض ، وإن الأمة لا تزال تتعامل به منذ عهد رسول الله rوإلى عصرنا هذا ، والعلماء يقرونه من غير إنكار أحد منهم .
فقد اقترض الصحابة رضي الله عنهم وأقرضوا ، وكان معنى الإقراض لديهم دليل على المروءة والتقوى وقياس لأفعال الخير وأبواب البر بالناس والتخفيف عن كاهل المسلم بشتى الطرق والأساليب التي اكتسبوها من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وتهي أيضاً قربة يتقربون بها إلى الله سبحانه لما فيه من أبواب الرفق والرحمة والإحسان بالغير ..
إقرأ أيضا:
تحميل PDF مجموعة عروض في القانون العقاري
تحميل PDF مجموعة عروض في قانون الشغل
تحميل PDF مجموعة عروض في القانون الجنائي
تحميل PDF أزيد من 100 عرض في مجالات القانون
تحميل PDF عروض وبحوث في الوسائل البديلة
الفقرة الثانية: أركان القرض وشروطه
أولا: أركان القرض
القرض بحكم إنه عقد من العقود فمن البديهي أن لدى هذا العقد أركان لا يتم إلا بها ، وبنفس الوقت شروط تحقق الوجود الشرعي للقرض ، وبذلك يجب وضع التوضيح الكامل لتلك الأركان والشروط في هذا المبحث ، وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن أركان القرض ثلاثة هي :
الركن الأول (الصيغة) : ( الإيجاب والقبول )
بما أن القرض عقد يتم بين الطرفين ، فإن وجوده يتوقف على صيغة تُبين ماهية رغبة العاقدين في إنشائه ، وتعطي بوضوح صورة متكاملة عن الاتفاق الذي يحصل بينهما الخاص بتشكيل القرض. وذلك لأن النية من المستبعد كشفها لأنها أمر باطن ولا يمكن الاطلاع عليه ، فوضع مكانه ما يدلُ عليه ويكشف عنه وهو الإيجاب والقبول المتصلين المتوافقين .
وصيغة الإيجاب والقبول هي : كأقرضْتُكَ واقترضت ولا يشترط فيها لفظ القرض ، بل يصح بكل لفظ يؤدي معناه كأسلفتك وملكتلك ببدله وخذه بمثله ، وقول المُقترض : استلفت وتملكت ببدله ونحو ذلك ، ويصح أيضاً بلفظ الماضي والأمر كقوله : أقرضني وأسلفني ، وأقترض مني واستلف ونحوها([20]).
الركن الثاني العاقدان : ( المُقرض والمقترض) ويشترط فيهما :
(أ) أهلية التبرع في المُقرض فيما يقرضه :
لا وجود للخلاف بين الفقهاء في أنه يُشترط في المُقرض أن يكون من أهل التبرع ، أي حراً بالغاً عاقلاً رشيداً ، وعلى ذلك فلا يَمْلكه مَنْ لا يملك التبرع كالصبي والمكاتب والعبد المأذون ونحوهم ([21]).
(ب) الرشد و الاختيار :
معنى الرشد هو: (( الاتصاف بالبلوغ والصلاح في الدين والمال ، لأن القرض عقد معاوضة مالية ، والرشد في العاقد شرط في صحة عقود المعاوضة ، فلا يصح الإقراض ولا الاستقراض من صبي ولا مجنون ولا محجور عليه لسفه لأنهم غير راشدين في التصرف بأموالهم )) . أما معنى الاختيار فهو: (( تصرف الشخص بالمال بإرادته دون إكراه ؛ لأن الإكراه يفقد الرضا )) .
(ج) ما يُشترط في المُقترض :
ذكر الشافعية في مدوناتهم أنه يشترط في المُقترض أن يكون أهلاً للمعاملة ، بأن يكون بالغاً وعاقلاً غير محجور عليه([22])، ولم يتشرطوا أهلية التبرع فيه .
الركن الثالث المَحَل : ( المالُ المُقْرَض)
ذكر الفقهاء ثلاثة شروط ، ومعها بيان اختلاف الفقهاء في اعتبارها أو في مدى اشتراطها وتلك الشروط هي :
الشرط الأول : ( أن يكون من المثليات ) :
المثليات : هي الأموال التي لا تتفاوت آحادها تفاوتاً تختلفُ به قيمتها ، كالنقود وسائر المكيلات والموزونات والمذروعات والعدديات المتقاربة ([23]).
الشرط الثاني : ( أن يكون عينا ً) :
عيناً أي معناه عدم صحة إقراضِ المنافع ،
والمالكية فلم يشترطوا في باب القرض أن يكون محلَ القرض عيناً ، ولكنهم اشترطوا في الشيء المُقرض أن يكون مما يصح فيه السَلم فوضعوا معياراً لما يصِحُّ إقراضه ، وفي باب السلم نصوا على جواز السَلم في المنافع كما هو الشأن في الأعيان ([24]) ، فنستنتج من ذلك الكلام صحةَ إقراض المنافع فهي ضمن ما يجوز السَلم فيه المنضبط بالوصف بمقتضى ما موجود في قواعد مذهبهم.
الشرط الثالث ( أن يكون معلوماً) :
اشتراط معلومية أو قدر المال المُقرض ضرورية لأجل صحة العقد، فعلى هذا القول(يشترط في محل القرض أن يكون معلوم القدر عند القرض ، كيلاً أو وزناً أو عدداً أو ذرعاً ليُتَمكن من رد بدله)([25])
[1])) صحيح مسلم بشرح النووي ، تحقيق : خليل شيحا ، دار المعرفة ، بيروت ، ط5 ، 1998 ، كتاب البر والصلة والآداب ، باب تحريم الظلم ، ح (6521)، ج16، ص351،350.
[2] لسان العرب ،216/7ومختار الصحاح ص ،528والمنجد في اللغة والأعلام ص .62
[3] الخرشي على مختصر سيدي خليل .229/5
[4] القيرواني، أبو يزيد: كفاية الطالب الرباني، مكتبة الثقافة الدينية ، القاهرة ، ج ، 2ص .
[5] المادة 69 من القانون 31_08 صادر بالجريدة الرسمية عدد 5932بتاريخ 7 ابريل 2011
[6] محمد الأنصاري, الفقيه أبي عبد الله محمد الأنصاري المشهور بالرصاع التونسي , شرح حدود ابن عرفة, طبع بأمر من صاحب الجلالة نصره الله , 1992م/1412ه, ص:413.
[7] أبي بكر بن علي الرازي: أحكام القرآن, دار الكتاب العربي, بيروت, الطبعة الأولى , 1406ه/1986م, الجزء: 1, ص: 469.
[8]الدسوقي, حاشية الدسوقي على الشرح الكبير, ج: 3, ص: 2, وراجع التسولي , البهجة في شرح التحفة, ج: 2, ص: 23
[9]علاء الدين خروفة: عقد القرض في الشريعة الإسلامية, ص: 124.
[10] ابن عابدين: حاشية ابن عابدين، ج ،5ص .167.
[11] عائشة الشرقاوي المالقي: البنوك الإسلامية التجربة بين الفقه والقانون والتطبيق ,المركز الثقافي العربي, الدار البيضاء, الطبعة الأولى 2000م, ص:214/215
[12] سورة النساء الآية: 57.
[13] حسن الفكهاني: التعليق على قانون الالتزامات والعقود المغربي, ج:5, ص: 125.
[14] سورة البقرة، الاية 245.
[15] المزمل، 20
[16] الحديد 18
([17]) صحيح مسلم بشرح النووي ، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن ، حديث6793، ج17 /24،23.
([18]) سنن ابن ماجة ، القزويني ، تحقيق : فؤاد عبد الباقي ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، كتاب الصدقات ، باب القرض ، حديث2430، ج2 ، ص812 .
([19]) نيل الأوطار ، الشوكاني ، دار الجيل ، بيروت ، 1973 ، ج5 ، كتاب القرض ، ص347.
[20])) فقه المعاوضات ، مصطفى البغا ، مطبعة دمشق ، 1989، ج2 ، ص61.
([21]) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج ، محمد الرملي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، 1938، ج4، ص219 ، بدائع الصنائع ، الكاساني ، ج6 /519.
([22]) الفقه على المذاهب الأربعة ، الجزيري ، ج2/305.
([23])عقد القرض في الشريعة الإسلامية ، نزيه حماد ، دار القلم ، دمشق ، ط1، 1991 ، ص33.
([24]) أسنى المطالب وحاشية الرملي عليه ، ج2 /123 ، الخرشي وبهامشه حاشية العدوي عليه ، ج/203.
[25])) فقه المعاوضات ، مصطفى البغا ، ج2/63.